الجميع شاهد ما حدث في سوق الأسهم الأمريكية خلال الأيام القليلة الماضية
المخاوف اجتاحت نفوس المتعاملين ولذلك مبررات قوية لا شك في ذلك
الاقتصاد الأمريكي ينمو بين 2.5% إلى 3% فقط وبالرغم من ذلك فإن عوائد السندات الأمريكية ترتفع باستمرار منذ أن أعلن الفيدرالي رغبته بالمزيد من عمليات رفع معدل الفائدة
الخطأ الذي يقع فيه كثير من المحللين هو بأن يفسروا تراجع مؤشرات الأسهم بأنه بسبب ارتفاع عوائد الاقتصادات الأخرى أيضا وهو أمر غير دقيق
حيث كل ارتفاعات عوائد سندات منطقة اليورو واليابان وسويسرا لم تخرجها من المناطق السالبة ولذا فسياساتهم جداً تيسيرية والتوقعات هنا لا علاقة لها ولذا فإنها غير مؤثرة على أصحاب الأعمال هناك
وهنا نوضح لمن لا يعلم أثر ارتفاع عوائد سندات الحكومة على أنشطة الأعمال التجارية بأن ارتفاع العوائد يعني ارتفاع تكلفة الاقتراض
أي أن صاحب العمل إن أراد أن يتوسع في تجارته وأن يحصل على أموال من البنوك فعليه أن يدفع فوائد أعلى وبالتالي قد يجبر ذلك عدد من الشركات على الإفلاس أو إيقاف التوسع أي إيقاف التوظيف والتأثير سلبا على انفاق المستهلكين وبالتالي يؤثر سلبا على ربحية الشركات ويدفع أسهمها للتراجع
عندما ينمو الاقتصاد 3% ويرتفع العائد لأجل عامين في السندات الحكومية إلى 2.15% وعوائد لأجل 10 سنوات إلى 3% أو 4% فإن المستثمر قد يشتري السندات لأنها مضمونة من الحكومة الأمريكية وبالتالي يحرم الشركات من هذه الأموال سواء عبر الاستهلاك أو عبر توفيرها للتمويل وهذا يؤثر على تلك الشركات سلبا وهكذا يتأثر الاقتصاد ككل
إذاً فإننا نتحدث عن عوائد على السندات الأمريكية لأجل 10 أعوام عند 2.885% أي أن تكلفة الاقتراض تفوقها وهو ما يمثل ضربة لاسهم الشركات
الآن ومن الرسم المرفق منذ تسعينات القرن الماضي حتى الآن والذي يبين معدل العائد على السندات الحكومية الأمريكية لأجل 10 أعوام باللون الأصفر ويبين أيضا معدل الفائدة المفروضة من قبل الفيدرالي الأمريكي باللون الأزرق فإننا نستنتج
عند وصول معدلات الفائدة المفروضة من قبل الفيدرالي الأمريكي إلى مستويات مرتفعة نسبياً عما كانت عليه مؤخراً فإن عوائد السندات الأمريكية لأجل 10 أعوام تشعر بالخطر وتعزف عن الارتفاع بسبب توقع حدوث أزمة ما جراء ذلك مما يؤدي إلى تراجع الفرق بينهما كما هو في أسفل الرسم باللونين الأخضر (فرق موجب) والاحمر (فرق سالب أي أن عوائد أجل 10 أعوام أقل من الفائدة الفيدرالية)
أيضا يتبين أن بعد حدوث ذلك يحدث تباطؤ في الاقتصاد يجبر الفيدرالي الأمريكي على خفض معدلات الفائدة بشكل سريع كما حدث في أعوام تلت الـ 2000 و2008 والسبب في ذلك منطقي أن رفع معدلات الفائدة إلى مستويات مرتفعة نسبياً يؤدي لانفجار مالي في جوانب من الاقتصاد
إذاً فإن ارتفاع معدلات الفائدة يعزز احتمالية حدوث أزمة بسبب ارتفاع تكلفة الاقتراض المبنية على وهم بأن الشركات ستتحمل مستويات مرتفعة من معدلات الفائدة
الفيدرالي الأمريكي كان قد ساهم سابقاً في احداث تلك الأزمات والدليل على ذلك رفع متتالي لمعدلات الفائدة في أعوام من 2004 إلى 2006 وبسبب وجود انكشاف كبير للمستهلكين على قروض الرهن العقاري فإن عمليات رفع الفائدة القوية سببت عجزهم عن سداد الفوائد وكانت شرارة انطلاق الأزمة المالية العالمية
أيضاً في عامي 1999 و2000 تم رفع معدلات الفائدة من 4.75% إلى 6.5% وبعدها ماذا حدث؟!
انفجرت فقاعة اسهم التكنولوجيا وهوى مؤشر ناسداك من مستويات 5 الاف نقطة إلى الف نقطة فقط !
وبعدها هرع الفيدرالي لخفض معدلات الفائدة من مستويات الـ 6.5% إلى 1% !
هل تظنون أن الفيدرالي وقتها كان متيقن من أن كل جوانب الاقتصاد ستسير على ما يرام بعدما رفع معدلات الفائدة إلى تلك المستويات ؟!
نعم كان يرى ذلك في كل مرة وهو ما يراه الآن كذلك حيث درجة الثقة عالية لدى الأعضاء والدليل على ذلك هو اشاراتهم المستمرة بأنهم يريدون رفع معدلات الفائدة 3 مرات هذا العام !
وذلك لأنهم ينظرون إلى التضخم ولا ينظرون إلى مستويات النمو الحقيقي ولا يخيفهم التاريخ!
اليس ما ذكرناه يكفي لإخافة المستثمرين في سوق الأسهم الأمريكية؟! نعم بالطبع وهو ما يحدث هذه الأيام
الفيدرالي الأمريكي حالياً يشبه تمثال الحرية جامداً دون تصريح تطميني للأسواق بشأن توجه معدلات الفائدة
يبدو أن رئيس البنك الجديد جيروم باول بطيء بالتحرك وبعيد عن مجريات السوق الذي يتطلب منه أن يهدئها وأن لا يبقى تحت الظلام
أما جانيت يلين فقالت منذ أشهر أن معدلات الفائدة يجب أن لا ترتفع كثيراً عن المستويات الحالية أي أنها تعلمت من تاريخ الفيدرالي وكيف أثر على الاقتصاد سلباً في عدة حالات
هذا النوع من التصريحات مطلوب من بأول ليعيد الاستقرار في أسواق المال فأين هو؟!
هذا السكون أعاد اليوم معدلات العائد على سندات لأجل 10 أعوام إلى 2.88% مجدداً بالرغم من أنها عادت وتراجعت قليلا منها إلى 2.80% بعدما تراجعت مؤشرات الأسهم 2% خلال جلسة اليوم
نذكر هنا أن أعلى سعر سجل منذ عام 2011 كان في يناير عام 2014 عند مستوى 3.04% ولذا فإن هذا المستوى ليس من السهل تجاوزه في السوق ولذا فالاقتراب منه يعيد العوائد للتراجع وهكذا حتى حين
نعلم أن السوق الأمريكي غير معزول عن الأسواق الأخرى بل الترابط بينها جميعا كبير جداً ولذا فإن تراجع مؤشرات الأسهم الأمريكية بقوة تؤدي إلى الضغط سلبا على مؤشرات اسهم المناطق الأخرى
السبب أن أجزاء من قيم الأصول تتبخر وبالتالي الانفاق المتوقع من قبل المستثمرين يتأثر سلبا وبالتالي النمو العالمي يتأثر بشكل أو بآخر
حتى تدفق الأموال لأسواق الأسهم قد يتراجع بحدة نتيجة التذبذب الحاد وبالتالي تبقى الأموال مجمدة والاستثمارات تتراجع وتيرتها
هذا قد يسبب تباطؤ عالمي وليس فقط محلي داخل الولايات المتحدة الأمريكية ولذا فقد قفز المركزي الياباني بالأمس وصرح أنه غير متعجل لرفع معدل الفائدة
وبعد كل هذا يبقى السؤال … هل سيستمر الفيدرالي الأمريكي بتجاهل التاريخ وما يجري في الأسواق أم أن التطمينات قادمة ؟!
نورس حافظ
كبير استراتيجي الأسواق