السوق لا “يُربّي” فقط حسابك، بل يربّي عقلك. كل أمر شراء هو حكم على المستقبل، وكل وقف خسارة هو اعتراف بأنك لست النبيّ. لهذا يصبح التداول — إذا أُديّ بطريقة علمية — رحلة لاكتشاف الذات: لماذا أندفع؟ لماذا أتردد؟ ولماذا أكرر الأخطاء نفسها رغم معرفتي بها؟
هذا المقال يغوص في:
- كيف يفكر الإنسان الطبيعي مقابل المتداول المحترف.
- التفكير بالاحتمالات وليس بالتوقعات.
- نزوات النفس (الخوف، الطمع، الانتقام، الملل) وكيفية ضبطها.
- بروتوكولات عملية لتحويل الانضباط إلى نظام يومي لا إلى مزاج.
العقل البشري صُمّم ليحميك في الغابة، لا ليحميك في شاشة الأسعار. أهم الانحيازات التي تجرّنا للخسارة:
- كره الخسارة (Loss Aversion)
ألم خسارة 1,000 أقوى بكثير من متعة ربح 1,000؛ فتُمسك بالخاسر وتُسرّع الربح. النتيجة: متوسط خسارة كبير ومتوسط ربح صغير. - تحيز الحداثة (Recency Bias)
آخر ما حدث يطغى على حكمك: بعد ربحين متتالين تتوهم أن السوق “سهل”، وبعد خسارتين ترى كل صفقة “مخيفة”. - وهم السيطرة (Illusion of Control)
تحاول “فرض” إرادتك على السوق: تزيد العقود لتعويض خسارة، تحرك وقف الخسارة لأن “السهم لازم يطلع”… السوق لا يسمعك. - سرد القصص (Narrative Bias)
نحب الحكاية الأكثر جمالاً لا الأكثر احتمالاً. “السهم عنده منتج ثوري” لا يعني أن التوزيع الاحتمالي لنتائج السهم في صالحك اليوم. - مفعول الدوبامين
كل “ومضة” ربح تُكافأ عصبيًا فتبحث عن الإثارة بدلًا من الميزة (Edge). تتحول من متداول إلى مقامر يطارد الشعور لا العائد المعدّل بالمخاطرة.
2) عقل المتداول المحترف: من “هل سأربح؟” إلى “ما هو توزيعي؟”
المحترف لا يسأل: هل ستنجح الصفقة؟ بل: ما احتمالات نجاحها؟ وما حجم الربح المتوقع إذا نجحت، وحجم الخسارة إذا فشلت؟ ثم يبني قراره على القيمة المتوقعة لا الحدس.
2.1 التركيز على العملية لا النتيجة
النتيجة مفردة عشوائية؛ العملية قابلة للتكرار. المحترف يقيس جودة قراره حتى لو انتهى بخسارة؛ ويحتفل بقرار جيد خسر، لأن هذا ما يبني منحنى رأس مال يرتفع على المدى الطويل.2.2 استخدام المعدلات الأساسية (Base Rates)
بدل “هذه المرة مختلفة”، يبدأ بالسؤال: في 1,000 حالة مشابهة تاريخيًا، كم نسبة نجاح الاختراق؟ كم متوسط العائد؟ ثم يُعدّل الحكم بما يراه الآن.
2.3 تحديث اعتقاداته (Bayesian Thinking)
لا يتشبث برأي. مع كل معلومة جديدة، يحدّث احتمالاته. الرأي مرن، وقواعد المخاطرة صلبة.
3) الاحتمالات vs التوقعات: أين يختبئ الفرق القاتل؟
التفكير بالتوقعات يعني صناعة سيناريو مُحدد (“هيطلع 10% أكيد”).
التفكير بالاحتمالات يعني قبول توزيع من النتائج: قد يهبط 3%، أو يرتفع 7%، وهكذا… ثم تبني قرارك على القيمة المتوقعة (Expectancy).
3.1 معادلة العائد المتوقع (Expectancy)
العائد المتوقع لكل صفقة = (نسبة الربح × متوسط الربح) − (نسبة الخسارة × متوسط الخسارة)
- نسبة الربح = 45% = 0.45
- متوسط الربح = 2R (ربحك ضعف مخاطرتك)
- نسبة الخسارة = 55% = 0.55
- متوسط الخسارة = 1R
- 0.45 × 2 = 0.90
- 0.55 × 1 = 0.55
- 0.90 − 0.55 = 0.35R لكل صفقة
مثال آخر:
- نسبة الربح = 38% = 0.38
- متوسط الربح = 2.5R
- نسبة الخسارة = 62% = 0.62
- متوسط الخسارة = 1R
- 0.38 × 2.5 = 0.95
- 0.62 × 1 = 0.62
- 0.95 − 0.62 = 0.33R
4) المستثمر المحترف: نفس القانون… أفق زمني أوسع
المستثمر الحقيقي ليس “مُتوقِّع أسعار” بل مدير توزيعات عبر الزمن:
- يبني أطروحته على هامش أمان واحتمالات متعددة (سيناريو محافظ/أساسي/متفائل).
- يقيس القيمة المتوقعة المخصومة (احتمالات × تدفقات نقدية) لا “أكتر سهم بيتكلموا عنه”.
- يُعطي وزناً كبيرًا لاحتماليات الذيل (Tail Risks) عبر تنويع، سيولة كافية، وعدم تركيز مفرط.
- الخوف: يؤدي للبيع المبكر وتحريك وقف الخسارة “للأقرب”.
- الطمع: تضاعف الحجم بعد ربح لأنك “غير قابل للخطأ اليوم”.
- الانتقام (Revenge Trading): محاولة استرداد كرامة حسابك لا رأس ماله.
- الملل: الدخول لأنك تريد “نشاطًا”، لا لأن لديك ميزة
6.1 قائمة تحقق قبل الصفقة (Pre-Trade Checklist)
- هل توافرت إشارات النظام كاملة؟ (حدد 3–5 فقط)
- هل الحجم ضمن حدودي؟ (≤ 0.5–1% من رأس المال مخاطرة لكل صفقة)
- أين الخروج سلفًا؟ (وقف/هدف/خروج زمني)
- ما سبب الإلغاء؟ (شرط إن أُلغي، أُغلق المنصة)
6.2 أوامر مُسبقة (OCO: واحد يلغي الآخر)ضع وقف الخسارة والهدف معًا. اجعل المنصة تُنفذ الانضباط بدلاً من أعصابك.
6.3 نوايا تنفيذ (If–Then)
- إذا خسرت صفقتين متتاليتين ⇒ أتوقف 20 دقيقة وأراجع الخطة.
- إذا كسرت تقلبات اليوم الحدّ المحدد ⇒ لا صفقات جديدة.
- إذا تحرك السعر عكس اتجاهي نصف R ⇒ لا أزيد العقد.
6.5 بروتوكول الطوارئ (Circuit Breaker)
- حدّ خسارة يومي (مثلاً −2R): عنده تُغلق المنصة آليًا.
- حدّ خسارة أسبوعي (مثلاً −5R): عطلة إجبارية ومراجعة.
- فصل الحسابات: حساب تجريبي للفضول وحساب حقيقي للانضباط.
- تقليل الاحتكاك: إخفِ رصيد الحساب لحماية نفسيتك؛ ما يهم هو R والالتزام بالخطة.
- روتين قبل الجلسة: 10 دقائق تنفّس — قراءة الخطة — تحديث السيناريوهات.
- روتين بعد الجلسة: 15 دقيقة مراجعة — لقطة شاشة لأفضل/أسوأ قرار — درس اليوم.
إذا وجدت نفسك تقول: “السهم لازم يطلع”، فعُد واسأل:
- ما البدائل المحتملة؟ (ثلاثة سيناريوهات على الأقل)
- ما المعدلات الأساسية لكل سيناريو؟
- كيف سأتصرّف شرطيًا؟ (If السعر كسر X ⇒ أخرج. If أغلق فوق Y ⇒ أعيد التقييم.)
- من: “أتوقع صعود 10%”
- إلى: “أُقدّر 40% لصعود 8–12%، 45% لتذبذب ±3%، 15% لهبوط ≥6%. سأخاطر بـ0.75%، وقف عند −1R، هدف عند +2.2R، وخروج زمني إن لم يتحقق الزخم خلال جلستين.” هذا ليس جفافًا؛ هذا تحرير من الاستعباد العاطفي للتوقعات.9) أخطاء قاتلة وكيف تتفاداها
- تعويض سريع بعد خسارة كبيرة: أبطئ لا تُسرّع. ضع فاصلًا زمنيًا إجباريًا.
- تحريك الوقف اتّجاه السعر دائمًا: اقبل الخسارة الصغيرة لتمنع الكبيرة.
- الإفراط في التداول (Overtrading): عدد الصفقات ليس إنجازًا. الإنجاز هو التسلسل المنطقي للقرارات.
- التركيز على “نسبة النجاح” فقط: قد تربح 70% وتخسر المال إن كان R سيئًا. ما يهم هو القيمة المتوقعة.
10) برنامج 30 يومًا لإعادة برمجة العقل المتداول
الأسبوع 1 — الوعي:
- كتابة 10 صفقات تاريخية أخطأت فيها، وتحديد الانحياز المسبب لكل واحدة.
- تطبيق HALT: لا صفقة عند جوع/غضب/وحدة/إرهاق.
- بناء Checklist من 5 بنود فقط.
- تفعيل حدود خسارة يومية وأسبوعية على المنصة.
- تسجيل كل صفقة بصيغة R، وحساب القيمة المتوقعة أسبوعيًا.
- صفقة واحدة “مثالية” يوميًا تكفي.
- مراجعة 20 قرارًا، اختيار 3 عيوب ممنهجة، ووضع If–Then لكل عيب.
- تقليل الحجم 20% إذا انخفضت جودة التنفيذ، وزيادته تدريجيًا فقط بعد 10 قرارات متتالية مطابقة للخطة.
11) لماذا هذا كله هو اكتشاف ذات؟
لأنك ستتعلم:
- أن تقبل الجهل بكرامة: لا أحد يعرف الغد؛ نعرف فقط كيف نتصرّف حين يأتي.
- أن تفصل بين من أنت وبين نتيجة صفقة.
- أن تشتغل على عاداتك، ونومك، وصحتك — لأن جودة حالتك هي جزء من توزيع نتائجك.
- أن تجعل الانضباط عادة لا بطولة؛ والاحتمالات لغة يومية لا مصطلحًا أكاديميًا.
حين تتوقف عن البحث عن “توقع صحيح” وتبدأ في بناء ميزة احتمالية تُكرّرها بصرامة، ستجد أن منحنى رأس مالك — ومعه منحنى نضجك — بدأ أخيرًا يميل إلى أعلى.
القاعدة
احسب القيمة المتوقعة، اضبط المخاطرة، التزم بالخطة، ودع العشوائية تفعل ما تفعل — لكن على ملعبك لا على ملعبها.