قبل أن نتحدث عن ما إذا كان من المحتمل أن يحدث تيسيرًا كميًا في الولايات المتحدة الأمريكية نتيجة احتمالية تباطؤ معدلات النمو ومن ثم الكساد، يجب أن نعرف ما هو التيسير الكمي من الأساس. ولمعرفة ذلك يجب أن تنظر إلى الاقتصاد من زاوية بعيدة لترى كيف تعمل عجلة الاقتصاد من الأساس.
الاقتصاد يعني ببساطة عمليات شراء السلع ( Demand ) وعمليات بيع تلك السلع ( Supply ) ولكي يكون الاقتصاد جيدًا وقويًا يجب أن يقابل عمليات إنتاج تلك السلع نسبة طلب قوية عليها حتى تدور العجلة النقدية بشكل صحيح. ما أقصده بالعجلة النقدية هي دورة رأس المال، وهي ببساطة أن إنتاج السلع يتم بشكل جيد، ومن ثم الأموال النقدية تنفق على تلك السلع والخدمات وترجع مرة أخرى إلى القطاعات الاستثمارية ليعاد استثمار تلك الأموال. ولكن الكارثة الحقيقية هي حدوث خلل في تلك الدورة. لنتحدث عن الخلل الذي من الممكن أن يصيب دورة رأس المال ( Money cycle )
البنك المركزي
هو الذي تبدأ عنده حركة الأموال، من ثم تذهب إلى البنوك التجارية والاستثمارية والتي تقوم بتمويل القطاع الإنتاجي (الشركات) لإنتاج السلع والخدمات وتمويل الأفراد (القروض) ليسهلوا عمليات الشراء والبيع بين الأفراد والشركات. لاحظ أننا نتحدث عن مثال شبه افتراضي هنا حتى لا نحصر مصادر الدخل لكلاً منهما، وهو ما ليس له أهمية الآن.
انظر الشكل التالي لتعرف عملية دورة المال داخل الدولة
هذه هي العملية الطبيعية لحركة الأموال داخل الاقتصاد، ولكن يحدث الخلل عندما تتوقف تدفقات الأموال عند مرحلة ما من هذه المراحل، والتي ينتج عنها كل المشاكل الاقتصادية من كساد وسرعة معدلات النمو والتضخم، إلخ.
قد تنتج المشكلة مثلاً من توقف حركة الأموال عند الأفراد، فلا يقومون بالإنفاق المطلوب حتى تبيع الشركات منتجاتها، وهو ما يعني انخفاض الطلب، من ثم تتأثر الشركات من حيث معدلات الأرباح الناتجة عن انخفاض الطلب على السلع والخدمات، بالتالي تتعطل البنوك بسبب انخفاض الطلب من القطاع الإنتاجي والذي يتمثل في القروض والتي هي وظيفة البنك (التمويل) لتوسع الاستثمار. ومن هنا يحدث الكساد ويحدث التضخم في أحيان أخرى.
انظر الشكل التالي لمعرفة توقف سير الأموال عند مرحلة معينة وتأثيرها على المراحل الأخرى
و هنا من الممكن أن نعرف ما هو التيسير الكمي والذي يقوم به البنك المركزي نتيجة لتوقف حركة الأموال في الاقتصاد. البنك المركزي هو المسئول عن وضع السياسة النقدية وتغيرها حسب متطلبات الاقتصاد وظروفه، وفي هذا يملك البنك طريقتين مهمين جداً لتحفيز الاقتصاد مرة أخرى ودفع دورة الأموال إلى الأمام بعد حدوث الخلل. أو ببساطة معالجة توقف حركة الأموال في الاقتصاد.
الأداة الأولى: تقليل معدلات الفائدة
عندما تقل معدلات الفائدة فهذا يحفز المستثمرين على الاقتراض بفائدة أقل، و يحفز أيضاً الأفراد على الإنفاق بالكريديت، وهو ما يعني زيادة الطلب على المنتجات مرة أخرى وبيعها بصورة أسرع ومن ثم تحقيق الشركات لمزيد من الأرباح. وبالتالي فإن سوق الأسهم يرتفع كنتيجة لمعدلات الأرباح المرتفعة، وهي عملية تحفيزية لاستعادة استقرار دورة رأس المال داخل الاقتصاد.
ولكن المشكلة الرئيسية التي تقابل البنك المركزي هي احتمالية عدم تحفيز الأفراد على الإنفاق ( Spending )، فمن الممكن أن يكون الخوف من حدث معين بالنسبة للمستثمرين والأفراد أقوى من إغرائهم بالفوائد القليلة، وهو ما ينتج عنه مزيد من التحفظ في الإنفاق، وهو ما يعني مزيد من استمرار عدم ارتفاع الطلب على السلع والخدمات وبالتالي من الممكن أن تفشل هذه الخطوة من البنك المركزي لتحسبن سير دورة رأس المال (الاقتصاد). من هنا قد يذهب البنك المركزي إلى الخطوة التالية والبديلة.
الأداة الثانية: شراء السندات
يتجه البنك المركزي في هذه الحالة إلى شراء السندات، والهدف هو:
1- زيادة ائتمان القطاع المصرفي (البنوك) ليعطيهم مزيد من الثقة لإعطاء مزيد من القروض (التمويل)
2- هبوط عوائد السندات وارتفاع أسعارها بالتالي اتجاه رؤوس الأموال من التجمد في السندات إلى السوق مرة أخرى، وبالتالي رواج سوق الأسهم مثلاً والذي يزيد من قوة الشركات مرة أخرى
3- زيادة قوة القطاع المصرفي الذي يملك مثل هذه السندات بسبب ارتفاع قيمتها، وهو ما يعني أن الحالة الائتمانية للبنك ستكون أقوى وذلك بالطبع لأن البنك المركزي يقوم بزيادة الطلب على السندات كما ذكرنا. من الممكن أن تكون بعضها سندات حكومية ومن الممكن أن تكون بعضها سندات خاصة بالرهن العقاري أو ما شابه.
إذًا في هذه الحالة البنك المركزي قام بزيادة ثقة البنوك في ما لديها من ائتمان وهو ما سينعكس بالفعل على أداء الشركات لأن الشركات ستظل قوية نتيجة لعدم وصول الخلل الناتج عن عدم البيع (هبوط الطلب) على أرباحها والتدفق النقدي لديها.
هل من الممكن أن يحدث مثل هذا السيناريو في المرحلة القادمة؟
في الوقت الحالي يتجه الفيدرالي إلى رفع معدلات الفائدة الأمريكية نتيجة لازدياد سرعة معدلات النمو واتساع الفجوة بين الدين الأمريكي والناتج المحلي الإجمالي، وهو ما دفع الفيدرالي إلى زيادة صعوبة الحصول على الأموال برفع الفائدة، ولذلك كان من المفترض أن يرتفع الدولار الأمريكي وتهبط أسواق الأسهم بسبب قلق المستثمرين من احتمالية هبوط معدلات النمو للشركات، وبالتالي عدم تحقيق أرباح جيدة في الأعوام القادمة بسبب هبوط معدلات الإنفاق الناتجة عن صعوبة الحصول على الأموال بالنسبة للأفراد.
ويعني هذا احتمالية حدوث إما تضخم في حالة عدم ارتفاع الدولار الأمريكي نتيجة لحجب الأموال، وهذا بالطبع يحدث في حالات توافر مزيد من السيولة والكريديت في الاقتصاد كما هو حادث الآن، أو الكساد في حالة نقص الأموال النقدية داخل الاقتصاد بالفعل. وفي الغالب تكون هذه المرحلة تالية لمرحلة التضخم. وفي المرحلة الحالية من المحتمل أن يحدث الانكماش بالفعل بسبب رفع معدلات الفائدة مع سرعة معدلات الإنتاج التي حدثت في 2018 وهو ما يتطلب تحفيز الطلب على المنتجات بتقليل معدلات الفائدة الأمريكية وليس رفعها.
ولكن البنك الفيدرالي يحاول الحد من حدوث كارثة أكبر وهي الكساد، لأن الفجوة بين الدين والناتج المحلي من الممكن أن تؤدي إلى كارثة مشابهة لكارثة الكساد العظيم في حالة وصول الفائدة الأمريكية لمستويات لا يمكن معها تقليلها (0% مثلاً)، بالتالي سيتطلب الاقتصاد إما التقشف أو إعدام تلك الديون من الأساس، وهو ما حدث أكثر من مرة في التاريخ الاقتصادي.