كان واضحًا منذ بداية تولي حكم الولايات المتحدة أن الرئيس الأمريكي يبني استراتيجية الاقتصاد على دفع القطاع الصناعي والشركات إلى الأمام، وكان يريد بكل قوة أن تكون الأسواق المالية أعلى من أي وقت مضى. وقد نجح بالفعل حيث شهد مؤشر ستاندرد أند بورز مستوى تاريخي جديد في العام الجاري، ولكن المشكلة الأساسية كانت أن تلك الاستراتيجية بها مخاطرة كبيرة، فالمخاطرة كانت في أن سوق الأسهم الأمريكي إذا هبط من الممكن أن ينهار كل شيء، وذلك لأن الاستراتيجية كانت مبنية من الأساس على صعود وقوة سوق الأسهم ودفع معدلات نمو الشركات والبزنس إلى الأمام.
الأمر كان أشبه بلعبة الشطرنج، والتي كانت مبنية منذ افتتاح اللعبة على استراتيجية معينة، وحينما فشلت الاستراتيجية في منتصف الطريق أدى ذلك إلى انهيار اللعبة من الأساس. الآن الرئيس الأمريكي والحكومة تحاول أن تنقذ وجهة نظرها التي بني عليها كل شيء حتى لا تحدث كارثة اقتصادية، والكارثة أن كلمة استراتيجية تعني أن تُبنى كل الخطوات على بعضها البعض، كل القرارات الاقتصادية كانت مبنية على قوة الأسواق المالية الأمريكية.
رئيس بخلفية بزنس مان
الرئيس الأمريكي قبل تولي الحكم كان بزنس مان، و طبيعة رجل الأعمال هي كيفية الربح بأقل مخاطرة، والتفكير من منظور المخاطرة من الممكن أن يدفع الشخص إلى تحمل مخاطرة كبيرة نسبياً في سبيل الحصول على أهداف معينة من وجهة نظره قد تتطلب تلك المخاطرة. تفكير الرئيس الأمريكي في أن الولايات المتحدة تعتبر شركة من شركاته جعلته يتوقع أن تكون أمريكا عظيمة مرة أخرى فقط عندما يكون الاقتصاد أقوى مما سبق، ومن المحتمل أن تكون وجهة النظر صحيحية ولكن كيف نصل إلى هذه النتيجة؟ فهذا ما يُسمى استراتيجية أو خطة التنفيذ. الخطة كما ذكرنا بدأت بهدف وجود اقتصاد أمريكي أقوى مما كان، وبالفعل كان كل شيء يسير بشكل جيد إلى أن انهارت الأسواق بشكل مفاجىء نتيجة لقرارات كانت في غير محلها. دعني أشرح لك القصة بطريقة أفضل.
الرحلة الأمريكية لتكون عظيمة مرة أخرى
الهدف كان أن تكون الشركات قوية والتي نعرف مدى قوتها من البورصة، فعندما كانت البورصة تحقق مستويات تاريخية وجديدة في الارتفاعات الماضية كان الرئيس الأمريكي مطمئن جداً، وكان هدف ترامب أن تكون الشركات قوية من ثم البطالة أقل كثيراً وبالتالي الإنفاق الاستهلاكي سيكون أقوى كثيراً، وهو ما يعني إنتاج السلع والخدمات وبيعها في السوق. وعندما يتلاقى العرض والطلب في نقطة جيدة فهذا يعني اقتصاد قوي، ولكن الذي حدث أن مع تخفيض الضرائب الأمريكية اندفعت معدلات النمو بقوة إلى الأمام، فزاد المعروض من السلع والخدمات، وهذا بالطبع يتطلب أن يكون هناك طلب قوي في المقابل، ولكن مع ارتفاع أسعار السلع والارتفاع المحتمل أيضاً بسبب رفع التعريفات الجمركية على السلع الصينية أدى ذلك إلى هبوط معدلات الطلب على السلع والخدمات. البنك الفيدرالي رأى أن معدلات النمو الملتهبة من الممكن أن تؤدي إلى الكساد (وهو إنتاج كثير من السلع ولا يقابلها طلب فعلي مساوي لها).
بالتالي اتخذ قرار رفع الفائدة، وهنا كانت المشكلة، فرفع معدلات الفائدة ستجعل المستثمر يميل إلى شراء السندات الحكومية الجديدة بفائدة أعلى ومخاطر صفر، و هذا يعني أن سوق الأسهم يفقد تمويله من الأفراد والمؤسسات، فمن يشتري الأسهم في وقت رفع الفائدة يخاطر بقوة مع احتمالات عوائد قليلة قد تأتي أو لا تأتي.
الأمر أشبه بأن شركة أبل مثلاً تنتج مليون منتج ولكن يباع فقط 500 ألف، فهذا يعني أن الشركة لن تحقق ربحًا وبالتالي ستتحمل خسارة، وهو ما يعني أن الشركة ستكون غير مرغوب فيها بالنسبة للمستثمرين لأنها لا تحقق أرباحًا، بالتالي أسهم الشركة تهبط بقوة، وهو ما حدث في الآونة الأخيرة للسوق الأمريكي.
وجهة نظر البنك الفيدرالي كانت أن إنتاج قوي بلا طلب فعلي سيؤدي إلى الكساد، أو انتهاء مرحلة القمة للدورة الاقتصادية، وهو أمر من الممكن أن يؤدي إلى كوارث، حيث أن زيادة البطالة الناتجة عن فقدان الشركات لأرباحها ستزيد من عدد العاطلين والذين لن ينفقوا مثلما كانوا ينفقون من قبل، بالتالي مزيد من الانخفاض في معدلات الطلب وتظل تلك الدائرة إلى أن يتم اتخاذ قرار منقذ. البنك الفيدرالي كان له النصيب الأكبر في اتخاذ قرار حماية الاقتصاد الأمريكي، ولكن الرئيس الأمريكي كان غاضبًا من تلك القرارات لأنها لا تناسب استراتيجيته الخاصة.
هذه القصة هي التي أودت بالاقتصاد الأمريكي إلى النقطة الحالية، وفي انتظار العام الجديد لنرى ماذا يمكن أن يحدث في الأسواق، أضف إلى ذلك المزاج العام للمستثمرين والذي يؤثر بقوة على الأسواق المالية. فهل يتغير المزاج العام للمستثمرين ونشهد بدء ارتفاع السوق مرة أخرى؟ هذا ما سنتابعه مع حضراتكم في الأيام المقبلة.