لا أحد يعرف ما إذا كانت ستحدث أزمة مالية عالمية قريباً أم لا والبحث مستمر في كل تفاصيل الاقتصاد العالمي لإيجاد أي مكامن ضعف فيه قد تتسبب بها
حيث بعد 10 أعوام على حدوث أزمة الرهن العقاري التي هزت الاقتصاد العالمي من أقصاه إلى أقصاه وبعد كل خطط الإنقاذ التي اخترعت وفعلت لأجل عودة الانتعاش فما تزال هناك الكثير من التساؤلات في أذهان المفكرين عن عدة سيناريوهات بالغة الأهمية والتي تطرح كثيراً بين الفينة والأخرى والتي تمس العالم اقتصاديا وماليا ولها التأثير الكبير على الجميع
إلا أن السؤال الأهم لمستقبل الأسواق العالمية والأداء الاقتصادي المتشعب والمترابط بها هو هل هناك أزمة مالية واقتصادية تلوح بالأفق وما هي أسبابها إن كانت كذلك وما مدى تأثيرها على النظام المالي والاقتصادي العالمي؟
وهنا سنستحضر أهم الآراء بهذا الشأن حيث بالبداية نطرح بين ايديكم مقتطفات من مقال نشرته بلومبرج الأسبوع الماضي والذي تحدث عن أن الديون حول العالم بلغت 250 تريليون دولار كإرث ما بعد أزمة افلاس بنك ليمان براذرز
المقال استعرض بشكل عام ارتفاع الدين حول العالم خلال الفترة من عام 2008 حتى الآن وقد جمعت بياناته من مصادر معتمدة كمعهد التمويل الدولي حيث:
ارتفع الدين العالمي من مستوى 84 تريليون $ بداية الالفية إلى 173 تريليون $ عام 2008 إلى أن بلغ هذا العام 250 تريليون $
وارتفعت نسبة الديون العالمية إلى الناتج المحلي الإجمالي العالمي من مستوى يقارب الـ 283% إلى مستوى يقارب الـ 320% من عام 2008 إلى 2018
بلغت الديون الحكومية 67 تريلون $ مرتفعة 30 تريليون $ خلال هذه الـ 10 سنوات بعدما كانت 37 تريليون $
اما بتفصيل تلك الديون فيتبين أن نسبة الديون الحكومية إلى الناتج المحلي الإجمالي ارتفعت بـ 28 % إضافية لما كانت عليه عام 2008
حيث راهنت الحكومات على أن بنوكها المركزية وأداءها الاقتصادي ستمكنها من سداد هذه الديون وهو ما وضع حاليا عملات عدد من الدول تحت ضغط مالي كما يحدث في الاقتصادات الناشئة
أما ديون المؤسسات الخاصة فقد ارتفعت حيث:
النصيب الأكبر للمؤسسات غير المالية التي رفعت ديونها من 46 تريلون $ إلى 74 تريليون $ ونسبة هذه الديون إلى الناتج المحلي الإجمالي قفزت من 77% إلى 90% خلال هذه الفترة
وأما المؤسسات المالية فبسبب الإجراءات التنظيمية التي تلت الأزمة العالمية فقد شهد ارتفاع ديونها تباطؤ حيث ارتفعت من 58 تريليون $ إلى 61 تريليون $ والعامل الجيد أن نسبتها للناتج المحلي الإجمالي تراجعت من مستويات عند حوالي 88% إلى مستويات عند حوالي 78%
أما بالنسبة لديون الأفراد فارتفعت من 37 تريليون $ في عام 2008 إلى 47 تريليون $ عام 2018 إلا أن نسبة تلك الديون إلى الناتج المحلي الإجمالي لم تتغير كثيرا عند حوالي 56%
من الملاحظ أن ديون الأفراد في الأسواق المتقدمة قد تراجعت في المانيا وبريطانيا واليابان وذلك بعكس الصين التي رفع افرادها ديونهم من مستوى 757 مليار $ في عام 2008 لتصل حاليا عند 6.5 تريليون $
أما ديون الأفراد في اميركا فقد تراجعت نسبتها إلى الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي إلى أدنى مستوى منذ عام 2002 أيضا بسبب الإجراءات التنظيمية التي استحدثت بعد الأزمة وتراجعت تلك النسبة في المؤسسات المالية بحكم تلك الضوابط المستحدثة
التقرير ذكر البرازيل وتركيا أيضا من حيث الاقتراض الكبير بالدولار الأمريكي وأن تغير معدلات الفائدة على الدولار الأمريكي جعلهما تحت الضغط حالياً وخاصة في القطاع الخاص ويبدو أنه مثال جيد لمستقبل تأثر الاقتصادات الناشئة جراء تغير السياسات النقدية الأمريكية
وتطرق التقرير إلى أن نسبة الديون في الاقتصادات الناشئة إلى ناتجها المحلي الإجمالي بلغت 100% ارتفعت الديون بشكل ملحوظ في الصين من 7 تريليون $ في عام 2008 لتصبح حالياً عند 40 تريلون $ ويظهر تضخمها بالمقارنة بـ 30 تريليون $ لبقية الأسواق الناشئة مجتمعة والتي كانت ديونها عام 2008 عند 16 تريليون $
ويخلص التقرير إلى أنه لا يمكن لأحد أن يتأكد بأن النظام المالي مستقر بشكل يتحمل هذه المستويات من الديون ويستنتج أن الوضع الآن يختلف بأن ارتفاع الديون الرديئة ليس بسبب الافراد كما حدث في أزمة الرهن العقاري عام 2008 بل بسبب الشركات التي يفترض التقرير بأنها تقبل التصنيفات الائتمانية الضعيفة لأجل تحقيق المزيد من الربحية
وليس بعيداً عن هذا الطرح فقد صرح المستثمر الملياردير المشهور Ray Dalio في الأسبوع الماضي أيضاً بأنه يرى أننا في الشوط السابع كما وصفه ضمن الدورة التي تقود نحو أزمة دين كبيرة حيث قد تستمر لمدة عامين قبل اندلاعها والتي يرى انها ستكون أكثر حدة من سابقاتها من الناحية الاجتماعية والسياسية وأنها أصعب بالتعامل معها وأنها لن تكون صادمة كما كانت في أزمة عام 2008 ولكنها ستكون متدرجة في حدوثها
ويرى الضغط الكبير على الميزانية الأمريكية جراء ارتفاع مصاريف الرعاية الصحية وصناديق التقاعد
ولكن هل هناك آراء لا تؤكد هذه الصورة المخيفة؟
في معهد BROOKINGS في الأسبوع المنصرم اجتمع أبطال مشهد انقاذ الاقتصاد الأمريكي من ازمته التي عصفت به قبل 10 أعوام وهم
Henry Paulson وزير الخزانة الأمريكية الأسبق الذي ساعد بتصميم برامج الإنقاذ المالي
وحضر اللقاء مع Ben Bernanke رئيس الفيدرالي الأمريكي الأسبق
و Tim Geithner وزير الخزانة الأمريكية الأسبق أيضاً
وقد طرح عليهم هذا السؤال أيضاً بصيغة أن J.P. MORGAN يرى أن الأزمة القادمة ستنشأ بسبب ارتفاع كمية التداولات الالكترونية وتراجع صناع السوق مما سيجعل الأزمة القادمة أسوأ حيث يتوقع البنك أزمة سيولة كبيرة ستضرب أسواق المال العالمية وتحقق انهيارات سريعة بالإضافة لتسببها إلى عدم استقرار اجتماعي مما سيجبر البنوك المركزية على اتخاذ خطوات غير مسبوقة والتي منها شراء الأسهم بشكل مباشر أو حتى سيكون هناك ضرائب سالبة على الدخل
وقد أجاب الحاضرين كالتالي:
Henry Paulson قال أن من الصعب توقع حدوث أزمة ما وأن أفضل دفاع ضد الازمات المالية هو أن لدينا اقتصاد قوي حيث سيمكننا من تجاوزها والاستجابة لها وأشار بأنه قلق أكثر حول العجز المالي حيث يرى ارتفاع الديون في ظل وجود خلل في توزيع الدخل مع ضعف في نمو الأجور لمدة طويلة بالرغم من أنه لا يرى أزمة حالية بسبب ذلك
أما Ben Bernanke فلا يرى أزمة بشأن الدين الأمريكي بشكل حالي إلا أنه يرى أن ارتفاع الديون وارتفاع الفوائد عليها نسبة للناتج المحلي الإجمالي ستؤدي لابتلاع الميزانية وأشار أن ذلك قد بدأ بالفعل مما سيقلل المرونة في حال حدوث أي طارئ كحرب أو أزمة مالية وصرح بأن ذلك يقلقه للمدى البعيد من حيث كيفية استخدام الموارد المالية في مجتمع يطعن في السن أو لأجل أغراض الدفاع القومي فهي بنظره أقرب لأن تكون مشكلة متعلقة بتوزيع المصادر أكثر من أن تكون أزمة مالية على المدى القصير
أما Tim Geithne فأشار إلى أنه لا يمكن معرفة كل العوامل الموجودة في النطاق الذي قد يتسبب بانهيار النظام المالي حيث هناك تنوع في عوامل كثيرة قد تسوء بشكل جماعي وآني وما يجب فعله هو تصميم نظام قوي ومستقر بشكل يكفي لاختباره ضد صدمات متعددة قد يتعرض لها
وأما بشأن ازمة الديون فقد قال إننا محظوظون مقارنة بالتحديات التي تتعرض لها الاقتصادات الأخرى ولذا فإن الخطر يأتي من خارج الولايات المتحدة الأمريكية ولا شك أننا قد نكون عرضة للتأثر بها.
وبعد أن استمعنا إلى أهم الآراء حول الأزمة المالية التي قد تضرب الاقتصاد العالمي فإننا بالختام نرى:
أن عدد من كبار الاقتصاديين والذين كانوا من أهم قادة إنقاذه من تبعات الأزمة المالية لا يستطيعون تأكيد ما إذا كان هناك أزمة تلوح بالأفق أما لا بالرغم من أنهم أشاروا إلى مكامن ضعف ومخاطر متعددة تواجه الاقتصاد العالمي
بالمقابل أيضاً فإن عدد من المستثمرين والمراقبين لأسواق المال والاقتصاد العالمي يرجحون أن يكون هناك أزمة بسبب ارتفاع حجم الديون وخاصة في المؤسسات غير المالية
ولكن لا أحد يستطيع أن يثبت لنا أن افلاس عدد من المؤسسات سينتشر أم لا حيث يرى البعض بأن الديون بالرغم من أنها كبيرة جداً إلا أنها أكبر من أن يسمح لها بالانتشار ضمن مبدأ too big to fail ثم أن البنوك المركزية والسياسات المالية ما يزال يمكنها أن تلعب دور كبير في ذلك
وخاصة أن حجم الأصول العالمية أضعاف مضاعفة من حجم هذا الدين العالمي فبالتالي قد تؤدي عمليات إعادة هيكلة المتعثر منها لتجنب إحداث أزمة حادة حتى لو أحدثت تباطؤ في نمو الاقتصاد العالمي.
نورس حافظ
كبير استراتيجي الأسواق