في الوقت الحالي بدأت جمهورية مصر العربية في التعافي من فترة المشاكل الاقتصادية التي نتجت عن الأحداث السياسية القاسية التي مرت بها منذ ما يقارب الـ 9 سنوات، وفي طريقها لاستعادة التوازن الاقتصادي بدأت مصر مرحلة الاقتراض من البنك الدولي حتى تستطيع السيطرة على العجز المالي، ومازالت الدولة في مرحلة التعافي وتحاول الحكومة الحالية أن تدفع عجلة الاقتصاد إلى الأمام، ولكن كالعادة لا تعرف معظم الشعوب ما معنى دفع عجلة الاقتصاد إلى الأمام.
بشكل بسيط دعنا نفترض أن قوة أو ضعف الاقتصاد في الوقت الحالي تتوقف على قوة أو ضعف الإنتاج، فالإنتاج هو الشيء الأهم تاريخياً في دفع اقتصاد الدول ونموها إلى الأمام. هذا إلى جانب بعض العناصر الأخرى والتي تحدثنا عنها في مقالات سابقة. والإنتاج هو حجر الأساس بالنسبة لأي دولة تريد أن ترفع معدلات نموها، وبالتالي ترتقي اقتصادياً. ولكن ماذا يحدث في حالة أن هناك إنتاج ولا يوجد طلب فعلي يقابل هذه السلع والخدمات المعروضة؟ تتوقف عجلة الإنتاج ولا تسير عجلة الاقتصاد.
قد تحدثنا أيضاً سابقاً عن دورة الأموال داخل الاقتصاد، وذكرنا أن البنك المركزي يمول الاقتصاد ويكون هو مصدر حركة الأموال والتي تذهب إلى الشركات عن طريق القطاع المصرفي الاستثماري أو التجاري والتي تدفع الشركات إلى الإنتاج ومن ثم تزيد من عملية عرض السلع والخدمات. ويجب أن يقابل هذا المعروض طلب من جانب المستهلك، وكما يتحكم البنك المركزي في عملية ضخ الأموال إلى الشركات لدفع الإنتاج، فهو أيضاً يتحكم في عملية زيادة الطلب عن طريق الفوائد البنكية على التعاملات بالدين، وعن طريق تسهيل الحصول على الأموال مثلاً بتقليل معدلات الفائدة، أو العكس بتشديد السياسة النقدية من ثم تهدئة معدلات الطلب لأهداف لن نتحدث عنها في هذا المقال.
الحياة في مصر 2019
في الوقت الحالي ستجد أن معظم البنوك تتجه إلى سياسة التسهيل عن طريق تشجيع الأفراد على الإنفاق ( Spending ) وفي هذا إشارة إلى أمرين، الأول هو زيادة ثقة البنوك في الحياة الاقتصادية ودليل على بدء رجوع الثقة بين القطاع المصرفي وجمهور المتعاملين، من ثم رجوع الثقة بين البنوك والدولة (الاقتصاد). والأمر الثاني هو الخوف من دخول السوق في منطقة خطر من مناطق الركود، فالبنك يزيد من عملية عرض الأموال والديون حتى يدفع معدلات الطلب الفعلي إلى الأمام. وإلى جانب القطاع المصرفي فهناك أيضاً شركات تمويل كثيرة جداً قد ظهرت في السوق المصري لنفس الغرض، وهو تسهيل عملية الإنفاق وزيادة الطلب.
مهمة صعبة ولكن غير مستحيلة:
ماذا دفع القطاع المصرفي إلى هذا الطريق؟ وما هي الحالة التي عليها مصر في الوقت الحالي؟
تعويم الجنيه المصري يسمى في علم الاقتصاد ( Devaluation ) وهو تخفيض سعر العملة، وحدث في دول كثيرة على مر التاريخ وكان له أثره على الاقتصاد. ولكن الملاحظ من تلك الدراسات أن أثر تخفيض سعر العملة على الجمهور لا يظهر إلى خلال 3 إلى 5 سنوات بعد تخفيض سعر العملة المحلية، وذلك راجع إلى سبب نفسي بحت، وهو أنك من الصعب أن تبدأ التعامل مع ال 1000 جنيه ك 500 جنيه مصري فجأة، فهم بالنسبة لك مازالوا 1000 جنيه في اليوم التالي للتعويم إلى أن تبدأ الأسعار في الصعود تدريجياً وهو ما يسمى التضخم. ويظل التضخم يصعد بوتيرة أسرع من المعتادة إلى أن يصل إلى مستويات تبدأ معها الدولة في اتخاذ سياسات محددة للسيطرة عليه حتى لا يذهب السوق إلى مرحلة الركود.
وهي المرحلة التي فيها السوق المصرية حالياً، أي هي مرحلة استهداف زيادة الطلب الفعلي حتى لا ندخل النفق المظلم المسمى بالركود، وإن كانت تلك المهمة صعبة جداً ولكنها ليست مستحيلة بسبب أنك من الممكن أن تجعل الحصول على الأموال شيء يسير، ولكن غير وارد أن تدفع الجمهور إلى الإنفاق رغماً عنه!
وهذه المشكلة الوحيدة في عملية تقليل معدلات الفائدة أو ما يسمى بالتيسير الكمي بشكل عام، فهناك خطر أن الناس قد لا تستعيد الثقة في الحياة الاقتصادية والمالية وهو ما يدفعهم إلى الادخار بشكل أقوى من الطبيعي، وهو ما حدث في مصر إلى جانب معدلات الدخل المحدودة والتي دفعت شريحة كبيرة من المصريين إلى الخروج من منطقة الطبقة المتوسطة، وبالتالي قد خسر السوق المصري هذه الشريحة الكبيرة من الناس، وهذا ما قاد السوق إلى اتجاه الركود حيث أن معدلات الطلب قد قلت بشكل كبير.
خطر التسهيلات:
هناك خطر وحيد، وقد تحدث عنه روبيرت كيوساكي في كتابه الأب الغني والأب الفقير، وهو أن معظم الشعوب لم تتعلم كيف تدير أمورها المالية بشكل صحيح، ولهذا يجب أن تدرك أن التعامل بالديون عبارة عن دائرة، فاليوم قد تشتري بالدين، ولكن غداً ستضطر إلى أن تقلل إنفاقك حتى ترد الدين وفوائده. بمعنى أنك إذا كان دخلك 1000 جنيه في الشهر، وقد تمكنت من إنفاق 1100 اليوم بسبب الاستدانة، فهذا يعني أن وقت دفع الدين ستضطر إلى إنفاق 900 جنيه فقط.
ولهذا لم أقابل أحداً في الوقت الحالي لا يشتكي من زيادة الالتزامات، وأن السبب الرئيسي لزيادة الالتزامات هو زيادة معدلات الديون، فإن كانت المشكلة هي عدم كفاية مستوى الدخل ( 1000 ) فهذا يعني أن مع الاستدانة أنت تزيد المشكلة لا تحلها، فماذا ستفعل عندما تضطر الى إنفاق 900 فقط بعدما كانت ال 1000 جنيه غير كافية؟!
الأمر يحتاج إلى حكمة ورشد، وهذه نصيحة قد تحل لك بعض المشاكل الاقتصادية. أعلم أن البنوك في آخر المطاف لا تهتم بك كمتعامل معها، ولكنها مؤسسة هادفة للربح في النهاية، فهي تهدف إلى زيادة أرباحها، ولهذا تريدك أن تقترض منها على أي حال حتى تربح منك فوائد الدين، أو تربح منك بشكل غير مباشر عن طريق دفع عجلة الاقتصاد إلى الأمام بزيادة الطلب على المنتجات، وهو ما سيدفع الشركات إلى بيع منتجاتها أسرع وبالتالي تقترض من البنوك مرة أخرى لزيادة معدلات الإنتاج.