في خطوة مباغتة هزّت الأسواق وأربكت التوقعات، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فرض رسوم جمركية موحدة وشاملة على جميع الدول، مخالفًا كل السيناريوهات التي توقعت إجراءات تدريجية تستهدف دولًا أو قطاعات محددة. القرار جاء صادمًا، لا في توقيته فحسب، بل في شموليته وحدّته، ما أثار مخاوف من موجة تضخمية عالمية جديدة، مختلفة تمامًا عمّا شهدناه خلال الأعوام الماضية.
ورغم أن الرسوم الجمركية تُصنّف كأداة تجارية، إلا أن تأثيرها الاقتصادي عميق؛ إذ تؤدي إلى رفع تكاليف السلع المستوردة، ما يدفع المنتجين المحليين لرفع أسعارهم بدورهم. الإشكالية الكبرى أن هذه الزيادة في الأسعار تأتي في وقت يعاني فيه المستهلك من ضعف القدرة الشرائية، دون أي تحسن يُذكر في مستويات الدخل، وهو ما يهدد بعودة التضخم، ولكن هذه المرة على حساب النمو والاستهلاك.
الطلب يضعف والأسعار ترتفع… معادلة خاسرة للمستهلك
المنتجون سيحاولون تمرير التكاليف إلى المستهلك، لكن مدى نجاحهم يعتمد على مرونة الطلب. في السلع الأساسية كالدواء والغذاء، قد يتمكنون من ذلك نسبيًا. لكن في السلع الكمالية كالإلكترونيات والسيارات، فالوضع يختلف، إذ يمكن للمستهلك تأجيل الشراء أو البحث عن بدائل أرخص.
هذا الانكماش في الطلب سينعكس مباشرة على أرباح الشركات. التقديرات تشير إلى أن أرباح قطاعات مثل التكنولوجيا والسلع الكمالية والفاخرة قد تنخفض بين 30% و40%. أما قطاعات السيارات والتجزئة، فهي مهددة بتراجع أرباح يقترب من 20% نتيجة حساسية الطلب على منتجاتها.
الأسهم في خطر… والناسداك أول المتأثرين
هذا الضغط على الأرباح بدأ ينعكس على أسواق الأسهم، مع تصدّر قطاعات التكنولوجيا والاستهلاك الكمالي لائحة الخاسرين. وفي حال استمرار الغموض السياسي والنقدي، فإن مؤشرات مثل ناسداك 100 وناسداك المركب قد تسجل تراجعات تصل إلى 30%.
تضخم العرض… والاحتياطي الفيدرالي مكبّل اليدين
ما نواجهه اليوم هو تضخم ناتج عن جانب العرض، حيث ترتفع الأسعار بسبب زيادة التكاليف وليس بفعل زيادة الطلب. هذا ما يُعرف بـ Cost-Push Inflation، وهو التضخم الأصعب في المعالجة، لأن أدوات السياسة النقدية مثل رفع أسعار الفائدة لا تنفع في مواجهته، بل قد تزيد الطين بلّة عبر تقليص الاستهلاك وتعميق التباطؤ الاقتصادي.
لذلك، يبدو أن الفيدرالي الأمريكي أمام مأزق حقيقي: أدواته محدودة، ورفع الفائدة لن يحل المشكلة، بل قد يعقّدها. السيناريو المرجح هو تثبيت أسعار الفائدة لفترة طويلة خلال عام 2025، مع احتمال اللجوء إلى خفض طفيف فقط إذا تدهورت مؤشرات الاستهلاك بشكل كبير. أي خفض سريع أو قوي قد يعيد إشعال التضخم الناتج عن الطلب، وهو ما يسعى الفيدرالي لتجنّبه بأي ثمن.
من الخاسر؟ ومن الرابح؟
المستهلك بلا شك هو الخاسر الأكبر. ارتفاع الأسعار سيؤثر بشكل مباشر على مستوى المعيشة، ويضغط على القدرة الشرائية التي لم تتعافَ بعد من صدمة التضخم السابقة. وحتى إن بدأ الحديث عن رفع الأجور، فإن ذلك يتطلب أشهرًا من التفاوض والتنفيذ، ما يعني أن المستهلك سيبقى تحت ضغط مستمر طوال عام 2025.
أما الرابح المؤقت فقد تكون وزارة الخزانة الأمريكية، التي ستشهد ارتفاعًا في الإيرادات من الرسوم الجمركية. ومع بلوغ الواردات الأمريكية نحو 4.1 تريليون دولار سنويًا، فإن فرض رسوم بنسبة 25% قد يرفع الإيرادات بما يصل إلى تريليون دولار. لكن هذا الربح ليس مضمونًا بالكامل، إذ من المتوقع أن يؤدي تراجع الاستيراد إلى تقليص العوائد الجمركية على المدى البعيد.
ختامًا… أزمة أم تحوّل؟
ما بدأ كقرار سياسي مفاجئ، يتحول تدريجيًا إلى أزمة اقتصادية تضخمية معقّدة، تُعيد التضخم إلى الواجهة ولكن من زاوية جديدة، وتضع الأسواق أمام واقع مختلف. ومع محدودية أدوات السياسة النقدية، يبقى السؤال مفتوحًا:
هل نحن أمام أزمة مؤقتة؟ أم أننا نعيش بداية فصل جديد من التقلبات الاقتصادية؟
الأسابيع القادمة ستحمل الإجابة.