بعد أن عرضنا في المقال الأول من هذه السلسلة أن الشعوب بأيديها تنهض بالدولة أو تهدمها، وأن الشعوب الفقيرة تميل دائمًا إلى الادخار خوفًا من المستقبل وحفاظًا على مستقبلها المالي والاجتماعي، ولأن الدول الفقيرة تكون مستويات المعيشة بها ضعيفة ومستويات الدخل قليلة، فهذا يولد لديهم ثافة الادخار ويجعل منهم شعوبًا خائفة من المستقبل على المستوى المالي، على العكس الشعوب الغنية.
المرحلة التالية لمرحلة الدول الفقيرة التي تعرف أنها فقيرة هي مرحلة الدول الغنية التي لا تعرف شعوبها أنها غنية، وهي مرحلة تأتي بعد المرحلة السابقة. في هذه المرحلة تكون تقريباً نفس الثقافة السابقة، وهي الادخار والعمل بجد من أجل مستقبل أفضل. ولأن الدول التي نمت شعوبها على ثقافة الادخار والخوف من غدًا دائمًا يفكرون بهذه الطريقة إلى أن يأتي جيل آخر في ظل أحوال اقتصادية أفضل، وبالتالي لا يمر بتجربة الفقر ولا يعرفها، فهنا من الممكن أن تتغير الثقافة بتغير الأجيال, والدول التي تكون غنية ولا تعرف أنها كذلك تفكر غالباً بالطريقة التالية:
1- العمل بجد والاجتهاد من أجل المستقبل الأفضل
2- تعتمد على التصدير أكثر من الاستيراد وتتجه إلى هذا دائماً
3- تكون معدلات سعر صرف العملة الخاصة بها ضعيفة نسبياً بالنسبة للعملات الأخرى
4- تدخر شعوبها بكثرة
5- تميل شعوبها إلى الاستثمار دائماً في الأصول مثل العقارات والذهب وما شابه ذلك
ولأن هذه الدول تكون معدلات أجورها ضئيلة، فتتمتع هذه الدول بقدر كبير من المنافسة، وهذا ما يزيد من تدفقات الاستثمارات الأجنبية إليها نظراً إلى أن تكلفة العمالة لديها جيدة. ولهذا دائمًا ما يزيد معدلات دخول هذه الدول بصورة مساوية أو يمكن أعلى من ارتفاع معدلات الدين. ولأننا تحدثنا عن أن الدين من الأمور الهامة جداً بالنسبة للاقتصاد في المستقبل، فهذا يعني أن تلك الدول لديها ميزة قوية ولديها أيضاً احتمالات بأن تكون دول قوية في المستقبل القريب بسبب زيادة الإنتاج وضعف ارتفاع معدلات الديون.
ولأن هذه الدول تتمتع دائماً بزيادة معدلات النمو في حين أن معدلات نمو الديون تكون منخفضة فهذا يزيد من التدفق الاستثماري إليها، وفي غالب الأمر يكون التضخم ليس هو المشكلة مادام أن هناك زيادة في الإنتاج وزيادة في معدلات أجور العاملية بصورة طبيعية. أما عن معدلات الفائدة البنكية في تلك الدول فغالباً ما تكون في مستويات قليلة، وهو ما يزيد من مستويات التضخم بشكل عام، ولكن مع الوقت من المحتمل أن تزداد معدلات نمو الدين إلى أن تكون سرعة زيادة الدين ومستوى الدخل أسرع من الإنتاج. هنا تميل تلك الدول إلى رفع معدلات الفائدة حتى يهدأ الانفاق الاستهلاكي إلى الحد الطبيعي، وذلك لأن مستويات الدخل عندما تكون في اتجاه صاعد دائماً فهذا من الممكن أن يزيد من مستويات التضخم بسبب زيادة الطلب المستمر على السلع والخدمات.
عندما تمر الدول بمرحلة الغنى التي نتحدث عنها في هذا المقال فترى تلك الدول تزدهر وتطور البنية التحتية لديها وتبني مدنًا جديدة ويتدفق إليها الاستثمار وتكون مستويات المعيشة فيها جيدة جدًا. ولأن زيادة معدلات الأجور والمرتبات تعني زيادة الادخار وزيادة الثقة في الاقتصاد، فهذا يعني أن الاستثمارات الأجنبية ستجعل تلك الدول دائماً لديها احتياطي نقدي قوي، وهو ما يجعل منها الدول القوية القادمة في المستقبل. ولأن هذه المرحلة، ألا وهي مرحلة الغنى، من الممكن أن تحدث لأي دولة في العالم عند زيادة معدلات الاستثمار بصورة قوية، فعندما تدخل الدول القوية بالفعل في هذه المرحلة فيتحولوا إلى دول مسيطرة على العالم اقتصادياً كما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية منذ عام 1820 عندما كانت الولايات المتحدة نسبة مشاركتها في الاقتصاد العالمي تساوي 0%. ولكن خلال هذه المدة الزمنية استطاعت أمريكا أن تكون القوى الأولى في العالم، وهو ما نحاول عرضه عله يكون مرجع قوي لكيفية ازدهار الدول وكيف أنها تنتهي.
في المقال القادم سنتحدث عن المرحلة الثالثة وهي مرحلة أن تكون الدول غنية وتعرف أنها غنية بالفعل، وكيف يعمل اقتصاد تلك الدول.