التحدي التركي الأمريكي، إلى أين؟

في الوقت الحالي تشهد الساحة العالمية صراعًا قويًا بين الولايات المتحدة الأمريكية، التي من وجهة نظر إدارتها أنها تسيطر على العالم ويجب أن يمتثل لها الدول أجمع، وبين تركيا، والتي يرى رئيسها أنها دولة ذات سيادة ولا يحق لأحد التدخل في شئونها الداخلية أو التدخل في أعمال مؤسسات الدولة. وهو ما دفع الإدارة الأمريكية بقيادة الرئيس دونالد ترامب إلى اتخاذ قرارات عنيفة ضد تركيا لتسليم القس الأمريكي، والذي احتجزته تركيا لتورطه في الانقلاب العسكري الفاشل الذي حدث في تركيا طبقاً لتصريح الإدارة التركية.

 

نظرة على الاقتصاد التركي قبل الصراع

كان الاقتصاد التركي العام الماضي ترتيبه من حيث الناتج المحلي الإجمالي رقم 17 على العالم، وكانت الدولة التركية دولة جيدة جداً من حيث الصناعة والتطور وزيادة معدلات النمو، إلى جانب أنها كانت الاقتصاد الأقوى في المنطقة العربية. بشكل عام كان يُنظر لتركيا من جانب علماء الاقتصاد والسياسة بأنها الحصان الأسود القادم وبقوة على الساحة الاقتصادية الأمريكية، وهو ما جعل من اقتصادها اقتصادًا موثوقًا فيه من جانب المستثمرين، حيث كان الاقتصاد التركي أحد الاقتصادات الرائدة في مجال المنتجات الزراعية والمنسوجات ومواتير السيارات وتوفير معدات النقل والمواصلات والمواد الخام و الأجهزة الإلكترونية والكهربائية.

 

وعند النظر في كل هذه الصناعات التي كانت تتميز بها تركيا بقوة تجد أن الاقتصاد لم يكن يرتكز فقط على الديون الخارجية، ولكنه كان اقتصادًا قويًا، وإن كان مبنيًا على خطة هذه الديون، ولكن استثمار أموال الديون كان جيداً جداً من الإدارة التركية، وهو ما جعل كثيرًا من الاقتصاديين يصفونها بأنها دولة رائدة جديدة في عالم الصناعة. والجدير بالذكر أن تركيا كانت في 2013 لديها 37 ملياردير طبقاً لمجلة فوربس.

 

أما عن بورصة إسطنبول، فكان أدائها جيدًا جداً خاصة في عام 2009، حيث تضاعف رأس المال السوقي في هذه الفترة، وبعدها ظل الصعود حتى وصل مؤشر البورصة في 2017 إلى 95.735. وفي أوائل العام الجاري وصل المؤشر إلى 116.638 نقطة، ولكن بعد الأزمة الأخيرة هبط المؤشر بقوة أسفل مستوى الـ 100.000، وهو أقوى هبوط حدث للسوق التركي منذ الأزمة العالمية في 2008.

 

في عام 2017، توقعت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن تركيا ستكون إحدى أسرع الدول في التنمية الاقتصادية بمعدلات نمو تقارب الـ 5%، وصعدت تركيا وتيرة التصدير بقوة في عام 2013 طبقًا للتقرير الذي أصدرته فاينينشال تايمز، وكان الاتحاد الأوروبي أكبر المستوردين من تركيا بنسبة 50% من إجمالي الصادرات. أما عن الاستثمارات الأجنبية، فكانت تركيا تشهد أداءً عظيماً، بحيث زاد الاستثمار الأجنبي بمعدل 10 أضعاف في آخر 15 سنة.

 

 

في عام 2017، وصلت معدلات النمو إلى 7.4 لتتغلب تركيا على كلاً من الصين والهند، حيث كان الناتج المحلي الإجمالي لكلاً من الدولتين 6.9 و 7.1 بالترتيب.

ولكن المشكلة الأساسية لتركيا كانت في عجز الميزان التجاري، حيث أن إجمالي صادرات تركيا بلغ في عام 2017 مقدار 9.3، في حين أن إجمالي الواردات كانت 22.7، وهي المشكلة التي حذر منها صندوق النقد الدولي، حيث قال إن في حالة ارتفاع أسعار النفط، والتي حدثت بعد المناوشات الإيرانية الأمريكية، من الممكن أن تؤثر على الميزان التجاري لتركيا بشكل سلبي، في حين أن الميزان التجاري في الأساس يعاني من اتساع العجز فيه بين الواردات والصادرات.

نظرة على المؤشرات الاقتصادية التركية:

 

الأزمة التركية الحالية 2018

 

هبطت العملة التركية أمام الدولار الامريكي ما يقارب من 20% بعد إعلان الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، مضاعفة التعريفة الجمركية على الواردات التركية، وهو ما كان ردًا منه على عدم الإفراج عن القس الأمريكي المحتجز من قبل السلطات التركية. على الجانب الآخر، رفع الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، التعريفة الجمركية على الواردات الأمريكية.

ولم يكن قرار الرئيس الأمريكي هو السبب فقط، ولكن الاقتصاد التركي في العام الحالي كان يعاني من قلة الاحتياطي النقدي مقارنة بالديون الخارجية، والتي زادت بشكل كبير مع انهيار العملة المحلية التركية بسبب الأحداث الأخيرة بين تركيا والولايات المتحدة.

 

التأثير لن يكون على تركيا فقط، ولكن أوروبا كلها مهددة

بعد وصف الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، معدلات الفائدة البنكية بأنها أم الشرور، هرب كثيراً من المستثمرين، حيث وجدوا في كلامه ما يشير إلى التدخل في سياسات البنك المركزي، وهو أمر مقلق لكثير من المستثمرين. وعلى الرغم من التحديات الاقتصادية القوية التي تواجه تركيا حتى قبل المشكلة الأمريكية، إلا أن الرئيس التركي ألقى باللوم على أن هناك مؤامرة ضد تركيا، وأن الإدارة التركية لم ترتكب أية أخطاء.

في هذا التعنت من جانب الإدارة التركية أمام مواجهة المشكلة الكبيرة التي يمر بها الاقتصاد، زادت المخاوف في أسواق المال التركية، وهو ما أدى إلى هبوط المؤشر العام لبورصة إسطنبول تحت مستوى الـ 100.000 كما ذكرنا في بداية التقرير.

 

إلى جانب أن هناك بنوك أوروبية كبيرة في موضع الدائن للدولة التركية، وهو ما يعني إفلاس هذه البنوك في حالة انهيار الاقتصاد التركي، ومع افتراض سيناريو إفلاس تلك البنوك، فقد يعني هذا حدوث أزمة عالمية ثانية.

وما زاد من قلق المستثمرين أن التأثير لن يكون فقط على تركيا، ولكن أوروبا بشكل عام مهددة أيضاً، وهو ما دفع مؤشر بورصة لندن إلى الهبوط في آخر جلساته عند مستوى 7469 ليفقد 2.57 لآخر 5 أيام تداول، وهو ما أدى إلى عدم الثقة في الإدارة التركية بقيادة الرئيس أردوغان.

تركيا حالياً تقع في مأزق الإنفاق الحكومي أيضاً، والذي زاد على الدخل الحكومي في الآونة الأخيرة، إلى جانب أن الديون الخارجية بالعملة الصعبة قد زادت نسبتها إلى 50% من الناتج المحلي الإجمالي.

 

الإدارة غير الذكية في تركيا هي السبب

ألقى كثيرًا من المحللين اللوم على الإدارة التركية فيما وصل إليه وضع الاقتصاد التركي في الوقت الحالي، حيث أن الاقتصاد في نظر كثير من المحللين كان يحتاج إلى التهدئة، لاسيما بعد أن وصلت مستويات التضخم إلى 16%، وهو ما يعني أنها تعدت توقعات البنك المركزي التركي، والذي كان يتوقع 5% لمعدلات تضخم، وهو ما يعني أيضًا أن البنك المركزي كان عليه رفع الفائدة لتهدئة الاقتصاد ومستويات التضخم.

 

والسبب في نظر المستثمرين هو الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، والذي يظهر عليه أنه يكره معدلات الفائدة بعد أن وصفها بأنها السبب في كل الشرور. ولذلك لم يثق المستثمرون في البنك المركزي التركي بعدما وجدوا تقاعس البنك في رفع معدلات الفائدة التي كانت من شأنها تهدئة الاقتصاد وجذب مزيدًا من الطلب على العملة التركية، وبالتالي تقوية العملة بسبب الاستثمارات الأجنبية، وهو ما يعني أيضاً تقليل حجم المدفوعات على الواردات التركية، ولكن أردوغان أيضاً صرح بأنه ضد فكرة زيادة معدلات الفائدة لدفع الاقتصاد إلى مزيد من النمو.

 

أما عن الحلول التي من الممكن أن تخرج تركيا من هذه الأزمة:

1- يجب أن يتمتع البنك المركزي بمزيد من الاستقلالية

2- التعامل بحكمة مع الأزمة المالية الراهنة والتي تتطلب مزيد من الذكاء على المستوى السياسي والاقتصادي

3- تهدئة الأزمة السياسية مع الولايات المتحدة قد يكون حل قوي وفعال في حل الأزمة، والتي كما ذكرنا تسببت فقط في آخر مشكلة خاصة بالعملة. ولذلك يجب تغيير إداري وهيكلي في المؤسسات المالية التركية لتحاول مرة أخرى أن تجذب المستثمرين بعد أن فقدوا الثقة في الإدارة بشكل كبير.

 

التحليل الفني للدولار الأمريكي أمام الليرة التركية:

كما هو واضح على تحركات الزوج، فكان صعود الدولار الأمريكي أمام الليرة قويًا جداً، وهو ما يسمى Spike phase. وفي هذه الحالات تزداد احتمالات الحركة التصحيحية، والتي حدثت بالفعل بعد الصعود القوي، حيث تراجع الدولار مرة أخرى لمستوى 5.680، بعد أن كان عند المستوى 7.069