نقاط رئيسية:
- توقيع الاتفاق التجاري الصيني الأمريكي دفع الأسواق إلى موجة تفاؤل، لكن الواقع مليء بالضبابية بانتظار حسم ملفات أخرى مع الشركاء التجاريين.
- احتمال رفع الرسوم الجمركية إلى 60% يهدد التضخم ويربك قرارات الفيدرالي الأمريكي.
- أسعار النفط تواجه معادلة صعبة بين تزايد الإنتاج من أوبك بلس وتراجع مخاوف الركود، مما يجعل مستويات الستينات الأكثر واقعية.
- الذهب والفضة محكومة بعوامل اقتصادية وجيوسياسية متضاربة، تدفع الأسعار للتحرك في نطاق محدود دون تسجيل مستويات قياسية.
- مؤشر الدولار الأمريكي يحافظ على استقراره في المدى القصير بفضل ميل الفيدرالي للتريث، مع احتمالية ضعف لاحق على المدى المتوسط.
- زوج الدولار الأمريكي مقابل الين الياباني يرتفع نحو 150، لكن سقفه النهائي مرجح عند 160 قبل أن يبدأ رحلة التراجع لاحقاً مع احتمالات خفض الفائدة الأمريكية بقوة.
بعد الاتفاق التجاري الصيني الأمريكي، ما تزال الأسواق تنتشي فرحة الاتفاق الذي يقضي بخفض كبير للرسوم الجمركية وفتح باب التفاوض لمدة 90 يوماً مع إمكانية توسيع الاتفاق مستقبلاً. هذا التفاؤل انعكس بوضوح على شهية المخاطرة في الأسواق، حيث يستمر زخم الارتفاع خاصة في قطاع التكنولوجيا، مع صعود مؤشر ناسداك 100 اليوم بأكثر من 1.5% ليصل إلى 21,300 نقطة.
وفي المقابل، عززت أسعار النفط مكاسبها بأكثر من 3% مع تراجع مخاوف الركود في كل من الاقتصاد الأمريكي والصيني خلال هذا العام. أما مؤشر الدولار الأمريكي فقد انتعش بالأمس وتراجع اليوم، بينما شهدت أسعار الذهب تراجعاً بالأمس قبل أن تستقر اليوم على ارتفاع طفيف.
لكن، يجب أن ندرك حقائق هامة جداً:
أولها أن الحرب التجارية الأمريكية مع الشركاء الاقتصاديين لم تنتهِ بعد، وإن اتسمت الآن بقدر من الإيجابية. فالتغير الذي حدث بالتوصل إلى الاتفاق مع الصين يعطي المستثمرين انطباعاً بأن المزيد من الاتفاقات، سواء مع الاتحاد الأوروبي أو كندا والمكسيك، كأكبر الشركاء التجاريين الآخرين، باتت محتملة أيضاً في القريب العاجل. هذا الانطباع من المتوقع أن يسود ويكون هو السيناريو الأول، حيث لا يرغب أي من هذه الاقتصادات الكبرى في إدخال بلاده في حالة من الركود الاقتصادي أو الإضرار بالشركات التي تقوم بالتصدير من وإلى الولايات المتحدة الأمريكية.
غير أن مهلة التسعين يوماً التي منحها الرئيس الأمريكي فيما يتعلق بالتراجع المؤقت عن فرض رسوم تجارية مماثلة لتلك التي تفرضها الدول على السلع الأمريكية، ستنتهي في يوليو. وبالتالي فإن احتمال إعادة فرض الرسوم الجمركية على مجموعة من الدول يبقى قائماً في حال لم يتم التوصل إلى اتفاقات تجارية واضحة مع الولايات المتحدة الأمريكية.
بالإضافة إلى ذلك، فإن الصين أيضاً والتي خُفّضت الرسوم الجمركية على سلعها إلى 30% وأعطيت مهلة لمدة تسعين يوماً، قد لا تتمكن من إقناع الرئيس ترامب بشكل كامل، خاصة إذا رأى أن الشركات الأمريكية التي تطلب بمزيد من التسهيلات لدخول الأسواق الصينية لم تحقق تقدماً ملموساً في تقليص العجز التجاري. حينها قد يعمد الرئيس ترامب مجدداً إلى رفع الرسوم الجمركية على الصين.
وهنا لا بد من فهم الأبعاد الاقتصادية للرسوم الحالية:
حيث أن الولايات المتحدة الأمريكية بفرضها 30% على السلع الصينية تحقق إيرادات تقدر بنحو 150 مليار دولار من أصل 450 مليار دولار هي قيمة الواردات الصينية إلى الولايات المتحدة تقريباً. وهذا الرقم لا يغطي العجز التجاري الكبير الذي يصل إلى حوالي 300 مليار دولار لصالح الصين. مما يعني أن الولايات المتحدة، لكي تحقق إيرادات تعادل تقريبا هذا العجز، يجب أن ترفع نسبة الرسوم الجمركية إلى حوالي 66%، وهو ما سيوفر لها إيرادات تقترب من 300 مليار دولار، هذا إذا افترضنا أن الصين لا تفرض أي رسوم جمركية على السلع الأمريكية، بينما الواقع أن الصين تفرض رسوماً بنسبة 10%، وقد تلجأ إلى زيادتها إذا قررت الولايات المتحدة رفع نسبتها إلى 66%.
لذلك، من المرجح جداً أن ترتفع الرسوم الجمركية بعد انتهاء مهلة الثلاثة أشهر، ولكن ليس إلى مستوى 145% كما نفى الرئيس ترامب في تصريحاته السابقة، بل إن نسبة 66% قد تكون الخيار الأكثر منطقية وفعالية من وجهة نظر الإدارة الأمريكية لتحقيق أهدافها التجارية.
وهذا يعني أن هناك تأثيرات على التضخم لا يمكن معرفتها وقياسها خلال فترة الثلاثة أشهر فقط:
فالفيدرالي الأمريكي الذي أكد أعضاؤه في آخر تصريحات لهم بشكل شبه متفق عليه أن هناك حاجة للترقب والانتظار لمعرفة مسار التضخم بشكل واضح، يدرك أن بيانات التضخم الحالية التي صدرت اليوم والتي تعود لشهر أبريل لم تعكس بعد أثر رفع الرسوم الجمركية، حيث لم يُتح الوقت للمنتجين لرفع الأسعار وتمريرها إلى المستهلكين.
لذلك، من المتوقع أن نرى في الفترة القادمة ارتفاعاً ملحوظاً في معدلات التضخم، ربما لا يصل إلى المستوى المتشائم الذي توقعته استبيانات جامعة ميشيغان عند 6.5% خلال عام قادم، لكنه مرجح أن يستقر بين 4% إلى 5% على الأقل. وهو مستوى لا يسمح للفيدرالي الأمريكي بإجراء تخفيضات كبيرة على معدلات الفائدة.
كما أن الفيدرالي، في ظل التقلبات المتسارعة في معدلات الرسوم الجمركية والتي تتغير بسرعة، يجد صعوبة بالغة في إعداد نموذج اقتصادي واضح لتوقع معدلات التضخم والتفاعل معها بشكل دقيق.
لكن من ناحية أخرى، الإيجابية التي حدثت أن احتمالية دخول الاقتصاد الأمريكي في حالة ركود تراجعت بشكل كبير جداً، مما يرجح أن يستمر نمو الاقتصاد الأمريكي خلال عام 2025. وهذا السيناريو بدوره لا يدفع الفيدرالي ولا يجبره على خفض معدلات الفائدة بشكل كبير خلال الفترة المقبلة.
فما تأثير ذلك على الأسواق؟
أولاً، احتمالية رفع الرسوم الجمركية على الصين إلى 66% أو أي نسبة أعلى من 30% بشكل واضح، إلى جانب عدم التوصل حتى الآن إلى اتفاق مع الاتحاد الأوروبي وكندا والمكسيك، يجعل المستثمرين في حالة من الجمود والترقب، بانتظار معرفة ما الذي سيحدث تحديداً. وبالتالي، ورغم وجود ميل بسيط نحو أن الإدارة الأمريكية تسعى للحصول على توافقات، إلا أن التدفقات النقدية إلى الولايات المتحدة الأمريكية وأسواق الأسهم قد تستقر أو تنمو بشكل ضعيف جداً في الفترة القصيرة القادمة حتى يتم حسم هذه المهل وتحديد الرسوم الجمركية بشكل شبه نهائي ومستقر يحقق توازناً بين جميع الشركاء التجاريين.
هذا الواقع يجعل من الصعب على مؤشرات الأسهم الأمريكية تسجيل مستويات قياسية جديدة في المدى القصير، حيث يُتوقع أن تتحرك ضمن نطاق محدود لا يتجاوز 10% حول المستويات الحالية، مع بقاء احتمالات التقلبات مرتفعة خلال هذه المرحلة.
أما عن النفط:
فإن أسعار النفط التي ارتفعت في الأيام الماضية بدعم من توقعات استمرار نمو الاقتصادات الكبرى وتراجع احتمالية الركود، تواجه أيضاً عوامل سلبية ضاغطة، أبرزها أن مجموعة أوبك بلس تواصل زيادة إنتاجها وتسعى للمزيد من هذه الزيادات. لذلك، رغم الدعم الناتج عن تعافي الاقتصاد العالمي، إلا أن ضغط زيادة المعروض يجعل من الصعب على الأسعار أن تستقر فوق 70 دولاراً للبرميل.
اليوم، خام برنت يسجل حوالي 67 دولاراً، ليقترب من مستويات 70 دولاراً، وهو ما يعكس نوعاً من التوازن المطلوب عالمياً بحيث لا ترتفع الأسعار كثيراً فتضر المستهلكين وتضغط على الاقتصادات المستهلكة، وفي ذات الوقت لا تنخفض بشكل مفرط يضر بالمنتجين ويهدد توازن السوق.
لذلك، مستويات الأسعار ضمن نطاق الستينات تبدو الأكثر واقعية وتوازناً في ظل هذه المعطيات، وتجعل من احتمالية رؤية أسعار النفط عند 70 إلى 80 دولاراً أمراً صعباً في المدى القصير.
أما بالنسبة لأسعار الذهب والفضة:
فرغم الإيجابية الناتجة عن ميل الإدارة الأمريكية لإبرام اتفاقات، مضافاً إليها رغبة روسيا في التوصل لاتفاق مباشر مع الأوكرانيين والمحتمل حدوثه يوم الخميس في إسطنبول، والتي تعتبر من العوامل الداعمة لاستبعاد تسجيل مستويات قياسية للذهب والفضة في المدى القصير، إلا أن هناك أيضاً جانباً من المخاطر الجيوسياسية التي لا يمكن إغفالها، وعلى رأسها الملف النووي الإيراني، وهو عامل قد يترك أثراً ليس فقط على أسعار النفط، بل أيضاً على الملاذات الآمنة.
ومع ذلك، في المدى القصير، لا نتوقع أن يكون هذا العامل كافياً لدفع أسعار الذهب إلى مستويات قياسية، حيث من المرجح أن تستقر أسعار الذهب ضمن نطاق يتراوح بين 3000 إلى 3500 دولار للأونصة، مدعومة بعوامل أهمها ارتفاع تكلفة شراء الذهب نتيجة ارتفاع أسعار الطاقة، إضافة إلى تنوع الاستثمارات من خلال البنوك المركزية وصناديق الاستثمار في ظل حالة الضبابية الاقتصادية المرتبطة بمسألة الرسوم الجمركية.
وفي هذا السياق، لا نتوقع للذهب تحركات تفوق 10% صعوداً أو هبوطاً في المدى القصير، حيث يبقى نطاق التحركات محدوداً في انتظار وضوح أكبر في الملفات الجيوسياسية والاقتصادية.
أما عن مؤشر الدولار الأمريكي:
فرغم الإيجابية النسبية التي وفرتها هذه الاتفاقات وتراجع احتمالية الركود، مما قد يحسن التدفقات النقدية إلى الولايات المتحدة الأمريكية قليلاً، إلا أن عدم إنهاء الملف التجاري بشكل كامل يبقي هذه التحسنات محدودة. ومع ذلك، فإن هذه الإيجابية ساعدت على إيقاف نزيف الدولار الأمريكي.
أما الجانب السلبي، فهو أنه في حال استمرت الرسوم الجمركية منخفضة نسبياً، فإن تأثيرها على التضخم سيكون أقل من التوقعات السابقة، مما قد يفتح الباب للفيدرالي في فترات لاحقة لخفض معدلات الفائدة بشكل تدريجي، الأمر الذي قد يضعف الدولار الأمريكي فيما بعد.
لكن في المدى القصير، هذا السيناريو غير مرجح، لأن الفيدرالي لا يستطيع حتى اللحظة تحديد مسار التضخم بشكل واضح، وبالتالي لا يمكنه اتخاذ قرارات جريئة في سياسته النقدية، وأقصى ما يمكن أن يقوم به هو تغييرات طفيفة جداً في معدلات الفائدة، والتي لن يكون لها تأثير كبير على مؤشر الدولار الأمريكي في الفترة القريبة.
أما بالنسبة للدولار الأمريكي مقابل الين الياباني:
فله خصوصية تستمدها من طبيعة الحركة الكبيرة لهذا الزوج، والتي تعود إلى الفارق الكبير في معدلات الفائدة والتوقعات بشأنها بين الولايات المتحدة الأمريكية واليابان. فالمثال الأوضح لهذا الفارق هو أن الولايات المتحدة، رغم توقعات تراجع معدلات الفائدة في المدى المتوسط، إلا أن مستويات التضخم قد تدفع الفيدرالي للإبقاء على الفائدة مرتفعة نسبياً لفترة أطول في المدى القصير.
هذا الواقع هو ما دفع زوج الدولار الأمريكي مقابل الين للارتفاع من مستويات 140 إلى مستويات 148 التي سجلها بالأمس، لكنه في الوقت ذاته من الصعب أن يستقر فوق مستويات 150 لفترة طويلة. قد نشهد استقراراً محدوداً عند هذه المستويات لأسابيع قليلة فقط قبل أن يعود للتراجع.
والسبب في ذلك يعود إلى أن المسار العام للفائدة الأمريكية يظل في اتجاه تراجعي، وحتى ارتفاع التضخم المتوقع في الفترة المقبلة سيضعف الاقتصاد الأمريكي على المدى المتوسط، مما سيجبر الفيدرالي لاحقاً على إجراء تخفيضات أكبر وأكثر قوة في معدلات الفائدة، وهو ما سيدفع الدولار الأمريكي للتراجع بقوة أمام الين الياباني.
لذلك، نرى أن مستويات 150 تشكل نطاقا مهماً ومقاومة نفسية قوية، بينما المستويات القصوى التي قد يصلها الزوج هي قرب 160، والتي من الصعب جداً تجاوزها أو الاستقرار فوقها، حيث ستكون هذه المستويات النهائية للارتفاع قبل أن يبدأ الزوج مرحلة تصحيحية وتراجعات قوية ضمن المسار المتوقع على المدى المتوسط إلى البعيد.